اضطراب طيف التوحد (ASD) هو اضطراب عصبي تطوري يؤثر على التواصل والسلوك. عبر الزمن، مر فهم التوحد بمراحل تطور كبيرة، حيث بدأ كمفهوم غير محدد في الأدب القديم ثم تطور إلى تشخيص طبي واضح في القرن العشرين.
إشارات مبكرة للتوحد في الأدب:
قبل أن يُعرف التوحد كمفهوم طبي مستقل، كانت هناك إشارات في الأدب القديم والحديث لشخصيات تحمل صفات قد تتماشى مع ما نعرفه اليوم عن التوحد.
- رواية “الأبله” لفيودور دوستويفسكي (1869): شخصية “الأمير ميشكين” تظهر سمات مثل البراءة المفرطة والانفصال الاجتماعي، والتي قد تكون مشابهة لبعض سمات التوحد.
- رواية “أماديوس” لأوغوست شتريندبرغ (1885): شخصية “كريستوف” تُظهر سمات مثل الانطوائية والاهتمام الشديد بالتفاصيل، ما يمكن أن يُفسر اليوم كجزء من طيف التوحد.
- رواية “الغريب” لألبرت كامو (1942): الشخصية الرئيسية “مورسو” يظهر انعدام الشعور والتفاعل الاجتماعي بطرق قد تشير إلى التوحد، رغم أن كامو لم يقصد تصوير التوحد، بل كان يسعى لتوضيح فلسفة العبثية.
العصور القديمة والوسطى:
في العصور القديمة والوسطى، كان الأشخاص الذين يظهرون سلوكيات غير عادية غالبًا ما يُفسرون بطرق دينية أو روحانية، وكان يُعتقد أن هؤلاء الأشخاص تحت تأثير قوى خارقة للطبيعة. لم يكن هناك أي فهم طبي للسلوكيات المرتبطة بالتوحد، ولم تكن هناك وثائق طبية توضح أو تصف التوحد كاضطراب محدد.
القرن التاسع عشر:
مع تطور الطب النفسي في القرن التاسع عشر، بدأت تظهر بعض الأعراض والسلوكيات التي قد تكون مرتبطة بالتوحد في الأدبيات الطبية. ومع ذلك، كانت هذه السلوكيات تُعتبر جزءًا من اضطرابات أخرى مثل الفصام أو التخلف العقلي، ولم يكن هناك فهم مستقل للتوحد.
القرن العشرين:
بدأ الاهتمام بالتوحد كاضطراب مستقل في أوائل القرن العشرين.
- 1911: استخدم الطبيب السويسري “أوجين بلولر” مصطلح “التوحد” لوصف أحد أعراض الفصام، لكن هذا الاستخدام كان مختلفًا عن مفهوم التوحد الحالي.
- 1943: وصف الدكتور “ليو كانر” 11 حالة لأطفال يظهرون صعوبات في التواصل الاجتماعي وسلوكيات متكررة، واعتبرهم حالة مستقلة وأسماهم “التوحد المبكر” (Early Infantile Autism).
- 1944: وصف الطبيب النمساوي “هانز أسبرغر” مجموعة من الأطفال الذين يمتلكون مهارات لغوية جيدة لكنهم يعانون من صعوبات في التفاعل الاجتماعي. لاحقًا، أصبح هذا يُعرف باسم “متلازمة أسبرغر”.
الخلاف بين كانر وأسبرغر:
الاختلاف الرئيسي بين ليون كانر وهانز أسبرغر كان في الفئة السكانية التي ركزوا عليها وفي التفسير الطبي للاضطراب. كان كانر يركز على الأطفال الذين يعانون من إعاقات كبيرة في التواصل الاجتماعي واللغوي، بينما كان أسبرغر يركز على الأطفال ذوي الأداء العالي الذين يظهرون مهارات استثنائية في مجالات محددة.
السبعينيات والثمانينيات:
بدأت الفروق بين التوحد والفصام تصبح أكثر وضوحًا، وتم إدراج التوحد كاضطراب مستقل في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM-III) عام 1980، مما ساعد في تحديده وتشخيصه بشكل أوسع.
التسعينيات:
شهدت التسعينيات زيادة في الوعي بالتوحد وزيادة في معدلات التشخيص، خاصة بعد توسيع معايير التشخيص في DSM-IV عام 1994.
الألفية الجديدة:
تطور الفهم الطبي للتوحد ليشمل مجموعة أوسع من الأعراض، وبدأ يُنظر إليه كطيف يشمل درجات متفاوتة من الشدة. في عام 2013، تم دمج التوحد ومتلازمة أسبرغر ضمن تشخيص واحد يُعرف باسم “اضطراب طيف التوحد” في DSM-5.
اليوم:
اليوم، يُفهم التوحد على أنه طيف واسع يشمل حالات متنوعة من الشدة، ويتم التركيز على دعم الأفراد المصابين بالتوحد لتحسين نوعية حياتهم. التوحد يُعتبر جزءًا من التنوع العصبي البشري، مع التركيز على تقديم الدعم والخدمات لتحسين نوعية الحياة للأفراد المصابين بالتوحد وأسرهم.
الخلاصة:
الخلاف بين كانر وأسبرغر لم يكن خلافًا شخصيًا بقدر ما كان اختلافًا في الرؤية والفهم العلمي للتوحد، وقد ساهم كل منهما في تشكيل الفهم الحديث للطيف الواسع للتوحد. التوحد اليوم يُفهم على أنه طيف من الاضطرابات، مع تفاوت في الشدة والتأثير على الأفراد، ويستمر العمل على تعزيز التفاهم والقبول المجتمعي له.